هواجس
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
هواجس

منبر الشعر الشعبي العراقي ومايدور في فضاءه من ثقافة وفنون شعبية تسعى لبناء الفكر وتؤسس لابداع عراقي وطني ملتزم
 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخولدخول  

 

 مفتتحات لقراءة أولية في القصيدة الشعبية (السبعينية) بقلم كا

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
الاعلامي عدي المختار

الاعلامي عدي المختار


المساهمات : 105
تاريخ التسجيل : 03/11/2007
الموقع : هواجس

مفتتحات لقراءة أولية في القصيدة الشعبية (السبعينية)  بقلم كا Empty
مُساهمةموضوع: مفتتحات لقراءة أولية في القصيدة الشعبية (السبعينية) بقلم كا   مفتتحات لقراءة أولية في القصيدة الشعبية (السبعينية)  بقلم كا Icon_minitimeالأربعاء فبراير 06, 2008 11:54 pm

مفتتحات لقراءة أولية في القصيدة الشعبية (السبعينية) بقلم كاظم غيلان الجزء الرابع

كتاب العراق الدامي
جمعة الحلفي
ارتبط الشعر، بوصفه نتاجاً معرفياً وجمالياً، بالمنابع الأولى للتكوين الإنساني، وظل مرافقاً لتطور المجتمعات، ينتقل، بانتقالها، من مرحلة حضارية إلى أخرى، ويتخذ مضامينه الوظيفية، تبعاً لاختلاف وتنوع المخاضات الاجتماعية، التي تنعكس، بدورها، على حياة الشاعر وعلى تقنية الشعر. لهذا فبمقدار ما كان الشعر، ولا يزال، نتاجاً وتعبيراً عن مرحلة اجتماعية محددة، بمقدار ما كان، وسيبقى، عملاً فردياً وإبداعياً خاصاً.
ثم أن الشعر، وهو التعبير الأكثر رهافة، عن الأحاسيس الإنسانية العميقة، المتجسدة تعبيرياً ولغوياً، لم يكن يوماً في منافسة مع أجناس الأدب والفنون الأخرى، بل كان، في الكثير من المراحل، سيد هذه الفنون على الإطلاق، فالشعر واحد من أقدم النشاطات الجمالية للعقل البشري، وكان، منذ فجر التاريخ، الأداة الأولى لنقل مختلف أشكال التعبير الإنساني، بدءاً بالأديان والطقوس، ومروراً بالسحر، وانتهاء بالأساطير والملاحم، ومع تطوره، كنتاج مستقل، تطورت أدواته وأشكال وزنه، فأكتسب تميزه عن بقية الفنون، لكن هذه الفنون لا تزال، حتى اليوم، تحتفي بالشعر وتتعايش معه، تتأثر به ولا تؤثر فيه. لهذا لم يكن من دون مغزى أن تظهر في مدارس النقد الأدبي، مصطلحات مثل شعرية الرواية، أو شعرية القصة والمسرح، عدا عن الموسيقى والرقص والغناء، وهي فنون ولدت في وقت واحد مع الشعر، ولا تزال مصاحبة له مثل ظله.
في السياق ذاته، يمكن الإشارة إلى حقيقة أن الشعر، الحقيقي والصادق والخلاق، يبقى شـعراً سـواء كتب باللغة الفصحى، أم بالعامية، ذلك أن اللغة، في نهاية المطاف، هي وعاء التعبير وأداته، وليست التعبير نفسه، والشعر الشعبي العراقي عامة، والحديث منه، على وجه الخصوص، جسد ولا يزال أصدق الأحاسيس الإنسانية وأكثرها رهافة، معبراً بذلك عن التصاقه الحميم بقضايا الناس والمجتمع، وبالهموم والأسئلة الإنسانية الكبرى.

ـ 2 ـ
في مطلع الستينيات، من القرن الماضي، انطلقت في العراق حركة تجديد في الشعر الشعبي، كانت مثيلة ونظيرة لحركة التجديد، التي شهدها الشعر العربي (الفصيح) في الأربعينيات على يد السياب والبياتي ونازك الملائكة وآخرين. وكانت قصيدة مظفر النواب الشهيرة (للريل وحمد) العلامة الأولى والأساسية في تلك الحركة، التي راكمها النواب، بنتاجه الغزير والمتفرد، وظل رائدها الأول. وفي نهاية عقد الستينيات أخذت حركة التجديد تلك تتسع وتتكرس فنياً، وتثبت حضورها على الساحة الثقافية والشعرية العراقية، بوصفها نتاجاً لمناخات التطور والصراع الاجتماعي والسياسي، في العراق الذي كان قد أفرز أيضا ظواهر تجديد ثقافية أخرى، متنوعة ومتقدمة، في ميادين الفكر والأدب والفن.
إن حركة التجديد والتحديث تلك، سواء كانت في الشعر العربي الفصيح، أم الشعبي، أو في ميادين الإبداع الأخرى، إنما انطلقت، في تلك الفترة، بالذات، كصدى عميق الأبعاد لمخاضات التمرد الاجتماعي والسياسي، وانطلاق حركات اليسار والثورة في العالم، مثلما كانت صدى لمخاضات الصراع السياسي والاجتماعي، داخل العراق نفسه. لهذا لم يكن من دون مغزى أن تنتشر، في ذلك الوقت، وفي مختلف أوساط المجتمع العراقي، قصائد مظفر النواب عن القمع والاستبداد السياسي، وعن التمردات والانتفاضات الفلاحية، في جنوب العراق، أو قصائد عريان السيد خلف عن جيفارا، وهوشي منه، أو قصائد شاكر السماوي عن الحسين والحلاج، أو قصائد
عزيز السماوي، عن المتصوفة والدراويش.

ـ 3 ـ
في ضوء ما تقدم، يمكن القول أن الشعر الشعبي العراقي، كان قد غادر، في ذلك العقد، بصورة شبه جذرية، مشهده التقليدي السالف، بما انطوى عليه من غنائيات غزلية، ووجدانيات في المديح والمراثي، ووظائف أخرى ظلت تقيده لقرون متعددة، بحدودها الصارمة ومواصفاتها
المغلقة.
كذلك كان قد غادر، إلى حدود بعيدة، أشكاله القديمة، في القريض، والموال، والأبوذية، والميمر، والمربع، لينبسط على مساحة واسعة من الموضوعات والأساليب، كانت آفاقها تطل على هموم الإنسان ومشكلاته الروحية، وعلى قضاياه الاجتماعية الكبرى.
وعلى اتساع رقعة هذه الموضوعات كان أفق التجديد، في أساليب وأشكال الكتابة الشعرية، يتسع، هو الآخر، ويتنوع في مديات التجريب وحرية الاكتشاف والتمايز.
لقد جرى في ذلك العقد، وهو عقد صاخب، على مستويات عديدة، سياسية وثقافية وإبداعية، لا تزال موضع دراسة وبحث، حتى يومنا هذا، تأسيس جديد لمفهوم القصيدة الشعبية، نقلها عن مقارباتها السطحية المباشرة، مع الموضوعات العامة، إلى عوالم الشعرية عميقة الغوص، في الروح الإنسانية، وفي الرؤى الجمالية المعاصرة. لهذا أيضا لم يكن، من دون مغزى أن تجتذب حركة التجديد في الشعر الشعبي العراقي، أسماء معروفة من شعراء الفصحى، ليجربوا كتابة القصيدة الشعبية، أو يضمّنوا قصائدهم الحديثة، مقاطع وأبيات واستعارات، من الشعر الشعبي، في محاكاة تكشف عن تأثير متبادل، فرضته شعبية القصيدة الجديدة، ومستواها الفني المتقدم. ويمكن الإشارة، هنا، على سبيل المثال، لا الحصر، إلى أسماء، مثل، سعدي يوسف، وصادق الصائغ، وعلي جعفر العلاق، وكريم كاصد، وسواهم، ممن جربوا كتابة القصيدة الشعبية.

ـ 4 ـ
مع أن قصيدة مظفر النواب استمرت، كأساس لحركة التجديد، في شكلها ومضمونها، وكانت أشبه بفنار اهتدى اليه عدد من الشعراء الشعبيين، مقلدين ومحاورين، ومقاربين نصوصهم مع تجربته الشعرية، إلا أن عددا آخر، من هؤلاء الشعراء، راح يبحث، في أعماق أخرى، تحت ارض التجديد، التي فتحت أمامه، مستنبطا موضوعاته وأساليبه الخاصة، في الكتابة الشعرية.
وبوسعنا الإشارة، هنا، إلى أسماء كثيرة، في مقدمتها عزيز السماوي وطارق ياسين وعلي الشباني وشاكر السماوي، كانت تمثل، إذا جاز التعبير، الجيل اللاحق للنواب، ولكن المتميز في بحثه عن أساليب كتابة، وموضوعات شعر، جديدة، خاصة به. وفي جوار هذه الأسماء كانت تجربة عريان السيد خلف، وأبو سرحان، وكاظم إسماعيل الكاطع، وكاظم الرويعي، وكاظم الركابي، وناظم السماوي، تمثل نمطا، أو تيارا آخر، في الكتابة الشعرية، لم يكن قد تخلص، تماما، من بعض سمات القصيدة الشعبية، التقليدية، إلا أنه كان يعد نمطا متقدما على تلك القصيدة، في اختياره لموضوعاته الشعرية، واهتمامه بقضايا الناس الاجتماعية والسياسية، منطلقاً نحو آفاق التجديد والشعرية الحديثة، ونحو مشكلات وهموم الإنسان، الروحية، وقضاياه الاجتماعية الأكثر تعقيداً.
بعد السبعين ظهرت أسماء أخرى، جلها من الشباب، الذي تفتح وعيه على القراءة والثقافة، في خضم تنامي الوعي السياسي، واحتدام الصراع الاجتماعي. وقد اختط البعض، من هؤلاء الشعراء الشباب، لأنفسهم، سبلا جديدة في كتابة القصيدة الشعبية، مغايرة لما سبقتها، إذ كانت تحاكي أكثر المدارس الأدبية والشعرية حداثة، وتستعير رموزها من الأسطورة، ومن التراث العربي، والعالمي. ويمكن الإشارة هنا إلى أسماء، مثل، إسماعيل محمد إسماعيل، وفاضل السعيدي، وكريم العراقي، وكاظم غيلان، ورياض النعماني، وريسان الخزعلي، وبشير العبودي، وكامل الركابي، ورحيم الغالبي، وآخرين من شعراء محافظات الجنوب، ممن لا تحضرني أسماءهم، للأسف.
هكذا، وفي عقد السبعينيات، بالتحديد، صار من الممكن الإشارة إلى حركة شعرية عامة، احتضنت تيارات متنوعة، من أساليب الكتابة الشعرية وموضوعاتها الإنسانية والجمالية، وكذلك في فعاليتها وحضورها الثقافي، الأمر الذي أثار، في حينها، تحفظ وامتعاظ السلطة الحاكمة، التي لم تجد، بين العشرات، من هؤلاء الشعراء الشعبيين، سوى قلة قليلة، من يدين بإيديولوجيتها، أو يولي سياستها الثقافية، أدنى اهتمام، بل على العكس، من ذلك، وجدت في هؤلاء، وكان غالبيتهم من المحسوبين على الحركة اليسارية العراقية، مواقف مغايرة ومناهضة لها، ولأيدلوجيتها وسياساتها، وهو ما دفعها إلى اتخاذ سلسلة من الإجراءات، في محاولة لاحتواء حركة الشعر الشعبي، كان من أبرزها إصدار قانون" حماية اللغة العربية " الذي استهدف، بالدرجة الأساسية، منع وإعاقة الكتابة، أو النشر، باللهجة المحلية، ومحاصرة النشاط الثقافي، السياسي، للشعراء الشعبيين، الذين كانوا يتمتعون بحظوة خاصة في أوساط المجتمع.

ـ 5 ـ
كان بين تلك التيارات الشعرية، أو أنماط الكتابة، تمايزات وتقاطعات كثيرة، مبعثها، أو أساسها الأول، الفوارق الثقافية. فكما هو معروف لم تنهض حركة التجديد، في الشعر الشعبي العراقي، على يد جماعة مجلة (المتفرج) أو (الفكاهة) أو(جمعية الشعراء الشعبيين) ممن كانوا يعتبرون أنفسهم، حراسا للتراث الشعبي، على غرار حراس اللغة العربية، أو التراث الشعري العربي، إبان انطلاق حركة التحديث، في الشعر العربي (الفصيح) إنما نهضت على يد نخبة من المثقفين والمتعلمين، وخريجي الجامعات والمعاهد، ذات الصلة بالأدب والفن. ولهذا يمكن القول إن عنصر الثقافة كان عنصرا أساسيا في عملية تجديد الشعر الشعبي العراقي. وإذا كان هذا لا يعني بطبيعة الحال، إن من هو ليس مثقفا، لا يستطيع كتابة القصيدة الشعبية الحديثة، فانه يعني، بالتحديد، إن المثقف اقدر على اكتشاف أسرار اللغة، وإيحاءات المفردة، وتكوين الصورة، وطبيعة هذه الصورة، من الناحية الفنية والجمالية الخ.. لهذا نقول إن تطور القصيدة الشعبية العراقية، ونقلها من مداراتها الشفهية، الحسية، ومن موضوعاتها التقليدية، إلى عوالم الشعرية الشمولية، قد تم على يد الشعراء المثقفين، فهؤلاء هم من استخدم الرمز، والأسطورة، وضمّن القيم العصرية، وابتكر أشكالا جديدة لكتابة القصيدة الشعبية، وغاص في أعماق الإنسان، ومشكلاته الروحية، وطرح تساؤلاته العميقة إبداعيا.
أما في ما يتعلق بطبيعة التمايزات، والتقاطعات بين التيارات، التي كتبت القصيدة الشعبية، فبالإمكان الإشارة إلى ابرز هذه التمايزات:
أولا: حجم الافتراق عن سمات ومواصفات القصيدة التقليدية، فهناك من كان يحرص على استخدام الإشكال القديمة، في بناء القصيدة، ويتقيد بها، شكلا ومضمونا، في حين كان هناك من يحاول كسر هذه النمطية، وكتابة قصيدة متحررة، اقرب إلى قصيدة التفعيلة، وحتى قصيدة النثر، وأكثر عصرية في اختيار موضوعاتها.
ثانيا: استخدام القيم الجديدة، اجتماعيا وأخلاقيا، في مقابل استخدام الموروث الشعبي، وقيمه العشائرية والقبلية.
ثالثا: استعمال المفردة المدينية، أو المفصحة -إن جاز التعبير- مقابل المفردة الجنوبية الريفية.
رابعا: استخدام الرمز والأسطورة، في مقابل استخدام المثل الشعبي والحكمة الدينية.
خامسا: معالجة المشكلات الكبرى للإنسان: الاجتماعية والسياسية والوجودية، مقابل الوقوف على أطلال الغزل، والوجدانيات، والعشق العذري الخ.
سادسا: الموقف من القارئ... فهناك من كان يكتب لقارئ محدد (ريفي، جنوبي، أو متمدن، في أحسن الأحوال)، مقابل الانفتاح على
القارئ المتعلم والمثقف، والعربي، غير العراقي،
أيضا.

ـ 6 ـ
استمد الشعر الشعبي العراقي ديمومته من خصائص متعددة شكلت، ولا تزال تشكل، سر شيوعه وانتشاره وتحوله إلى ظاهرة أدبية إبداعية وثقافية. أول هذه الخصائص تمثل في التصاقه الحميم بالبيئة الشعبية العراقية، الريفية منها، خاصة، بمفرداتها وأجوائها وتقاليدها وأساطيرها، والمدينية، بثقافتها وحداثتها ومناخاتها المعرفية. لهذا فقد كان ذلك الالتصاق، الفني والجمالي، أشبه بالمعين الذي نهلت منه القصيدة الشعبية، عوامل ومبررات وجودها واستمرارها، مثلما كان الأرضية التي تأسست على قاعدتها حداثة تلك القصيدة، وميدان انتشارها وشيوعها، كفعل إبداعي
خلاق، عبّر بصدق وحساسية عالية، عن هموم وأسئلة الإنسان العراقي،
وعن مكامن حزنه وألمه
وتطلعاته.
لقد كان الريف العراقي عامة، والجنوبي منه بوجه خاص، المادة الرئيسية للقصيدة الشعبية الحديثة، منذ كتب مظفر النواب قصائده الأولى، نهاية الخمسينيات، وقد ظلت، هذه المادة، منبعاً لأجيال عديدة من الشعراء، الذين كتبوا بعد النواب، إلا أن القصيدة الحديثة، التي استخدمت قيم وأعراف وتقاليد الريف، في موضوعاتها الإنسانية، واستمدت مفردات وألوان وجماليات المكان، وأطيافه، في موضوعاتها الفنية، لم تبق أسيرة تلك البيئة ومقارباتها المحددة والتقليدية، بل هي وظفت كل ذلك توظيفاً فنياً وجمالياً، في نص إبداعي، أعاد إنتاج وتجسيد تلك القيم، وكرسها في موضوعات شعرية، منحتها بعداً إنسانيا عاماً، وأضفت عليها طابعاً معرفياً وحضارياً. لهذا كان، من قبيل تحصيل الحاصل، أن تحتل القصيدة الشعبية الحديثة، طوال العقود الخمسة الماضية، هذه المكانة المرموقة، في مختلف الأوساط الاجتماعية، وعلى اختلاف مصادر وعيها وثقافتها وبناها المعرفية، لأنها ببساطة، كانت قد اكتشفت الطريق، في وقت مبكر، إلى قلوب وأفئدة الناس، وعبرت عن همومهم وآمالهم وتطلعاتهم، وعن أسئلتهم الإنسانية، وهو الأمر الذي أكد، ولا يزال يؤكد، حقيقة أن القصيدة الشعبية الحديثة، لم تعد قصيدة محلية الطابع، محدودة الأفق، كما كان عليه الحال في السابق، بل أصبحت ظاهرة إبداعية، وثقافية عامة، بامتياز
وجدارة.

ـ 7 ـ
تميزت حركة التجديد في الشعر الشعبي العراقي بخصائص عدة، فنية وجمالية وتكنيكية، جعلت منها ظاهرة ثقافية راسخة. فمنذ أن غادرت القصيدة الشعبية تلك الأجواء الضيقة في موضوعاتها وأطرها الفنية البسيطة، التي قيدتها قروناً عدة، وانطلقت في أفق الكتابة الحرة، شعرياً وفنياً، بدأت في بلورة ومراكمة أسباب نجاحها، وتكريسها نمطاً كتابياً رفيعاً، سرعان ما أحتل موقعه المؤثر، في عالم الكتابة الإبداعية والشعرية خاصة. وإذا كانت المساهمة الريادية لعدد من المبدعين، من أمثال مظفر النواب وعريان السيد خلف وعزيز السماوي وكاظم الركابي وطارق ياسين وسواهم، قد كرست حداثة القصيدة الشعبية، وفتحت الآفاق أمام انبعاثها، كقصيدة جديدة رصينة البناء، في معالجة موضوعاتها الفنية والإنسانية، فقد كان لمساهمة الأجيال التالية من المبدعين الشباب، قصب السبق في ترسيخ أقدام هذه القصيدة، وفي استكمال خصائصها الفنية والحداثية، مثلما كان لهم دورهم في تكريس شعبيتها وشيوعها، ليس في العراق وحده، بل كذلك في البلدان العربية الأخرى، حيث وجد المتلقي العربي، في هذه القصيدة أجواء ومناخات، وموضوعات كتابة تتجاوز، في ثرائها وقوتها وتأثيرها، كل ما تراكم في الذاكرة عن أشكال وطرق الكتابة الشعرية الشعبية، في البلدان العربية الشقيقة الأخرى. ولهذا فقد ترك عدد من الشعراء الشعبيين العراقيين، ممن عاشوا خلال العقدين الماضيين، في المنافي، أثراً ملحوظاً في الأوساط الثقافية العربية، أسس وعزز من روابط العلاقة
الإبداعية، بين القصيدة الشعبية العراقية، والمتلقي العربي، وهي علاقة كانت
ولا تزال، أشبه بالتذكار الذي
لا يمحى.

ـ 8 ـ
ربما كان الشعر الشعبي العراقي، من بين مختلف الفنون الأخرى، هو الأكثر تعبيراً عن تجليات الوجدان الشعبي، الجمعي والفردي معاً ولذلك فهو الأكثر قرباً وتمثلاً لتلك المحنة المأساوية التي عاشها العراق والعراقيون، طويلاً ومديداً، ليس الآن فقط، أو خلال العقود السوداء الماضية، من حكم الدكتاتورية والطغيان، فحسب، بل ربما منذ قرون عديدة، تمتد عميقاً وبعيداً، في ذلك التاريخ الدامي، الذي تشكل منه كيان وجسد وروح العراق، ولا يزال يتشكل منه، حتى اليوم، في حقب تراجيدية متصلة، لم يعشها شعب من الشعوب، كما عاشها شعب العراق، بمختلف أطيافه وأجناسه، وألوانه وانتماءاته.
ولأن الشعر الشعبي، ولا نقصد، هنا، القصيدة وحدها، بل نعني كذلك الأغنية والأهزوجة، ومختلف إشكال التعبير الشعبية، ميال دوما لتجسيد فجائعية المحنة، وإعادة إنتاجها شعرياً وإبداعيا، بأقصى تفصيلاتها، وأقسى تعبيراتها الإنسانية، فهو يبدو، إذن، وبالضبط، وكأنه ذلك النداب التاريخي، الذي لا يكف عن النواح، مثيراً في القلوب والعقول والأرواح، لوعة الفقد وحسرة
الانكسار والخسران، إنه بعبارة أكثر
دقة، كتاب العراقي الدامي
بامتياز.
لكن هل هذه ميّزة في صالح الشعر الشعبي العراقي، أم نقيصة ضده؟ قد تتصل الإجابة، هنا، بسؤال أكثر بعداً وشيوعاً، إنه ذلك الذي يواجه به العراقي، أينما حلّ، عن طبيعة ومصدر، وكم الأحزان، التي يتكون منها جسده وروحه وأغنيته وأدبه وفنونه .. وبالتالي تاريخه، ذلك التاريخ الذي ينطوي على سر البوح المتفجع، دوماً وأبدا.

ـ 9 ـ
مثلما تذوي الوردة عندما يحاصرها العطش والتصحر، تذوي الثقافة في ظل الاستبداد والطغيان. وقد ظلت الثقافة في العراق، طوال العقود السوداء الماضية، تصارع التصحر والموت في ظل نظام الحروب والخوف والاستبداد، فلا الثقافة التي أنتجت، في تلك الحقبة، قدمت شيئاً مهما على صعيد الإبداع والفكر والأدب، ولا الثقافة التي كانت تنتج في قاع المجتمع، وفي الزوايا الخلفية، كانت قادرة على المساهمة في رفد النسغ الإبداعي والجمالي، للثقافة العراقية، لذلك فقد كانت القصيدة والرواية والقصة واللوحة، وحتى الأغنية، المنتجة في قلب الظلمة، وفي ظل النظام البائد، هي أما ملوثة بلغة الخطاب الرسمي، اللحظوي، المرتكز أساسا على أردأ أغراض الأدب، كالمديح والتزلف ( حيث ميدان الكتابة أشبه بأسواق البورصة وتصريف العملة) وأما غارقة في الخوف والأحجية، والإشارات الغامضة، حيث اللغة مفرّغة من إيحاءاتها الحقيقية، الملموسة، ومنزوعة السلاح. وإذا ما كتُب أدب صادق وجريء، في تلك الحقبة السوداء، فذلك معناه أنه كتب تحت خط الحياة، أو في الدرجة صفر منها، لأن في ذلك مغامرة، كانت توازي، في مخاطرها، مغامرة الوقوف على حافة الهاوية.
ومثلما هو حال جميع الفنون وأشكال التعبير الإبداعية، سخّر النظام البائد القصيدة الشعبية، وحولها إلى أداة تعبير فاسدة، وخالية من الإبداع، ومفرغة من صدق وحميمية الشعر. وهكذا أذعن عدد من الشعراء الشعبيين، وكتاب النص الغنائي، لإرادة السلطة القمعية فأنتجوا كماً هائلاً من مطولات المديح والتزلف للدكتاتور، وحروبه وسياساته الهوجاء، فأهانوا بهذا المنتج الردئ، ذلك التاريخ المشرّف والناصع للقصيدة الشعبية العراقية، التي عُرفت طوال العقود الماضية، بجمالياتها الأخاذة، وانحيازها لقيم العدالة والحرية والجمال، وتعبيرها عن مطامح وتطلعات الإنسان العراقي.
وما يخشى، اليوم، هو أن يؤخذ الشعراء، كما أخذوا من قبل، بأجواء اللحظة التعبوية، والخطاب الحماسي، فيبتعدوا، بالقصيدة الشعبية، عن غاياتها الإبداعية والجمالية، وعن وظائفها الشعرية الأصيلة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hegs.ahlamontada.com
 
مفتتحات لقراءة أولية في القصيدة الشعبية (السبعينية) بقلم كا
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
هواجس :: ماتنشره الصحف-
انتقل الى: